كانت ليلة شبه مظلمة فى أواخر الشهر العربى, وقد جلست وحيداً لليوم الثانى على التوالى فى إنتظار زميلى المنوط حضوره الأمس , وكان لابد لى من الابلاغ عنه اليوم, لكنى تريثت حتى الصباح, الجيش قاسى وهو يرفع مبدأ حكم النفس وما أدراكم ما هو حكم النفس. إلا أن الأمر ليس شاقاً لمجند عسكرى مثلى, يعتبر نفسه محظوظاً لتأديته الخدمة العسكرية بعيداً عن جو المعسكرات الشاق فى أحدى محطات تموين الوقود الوطنية التى تقع بين مفارق طرق سفر...فى منطقة صحراواية مهجورة لا تكاد تلمح فيها سوى معسكرات الجيش المغلقة خلف الجبل الصامت وكثير من المقابر على الجهة الأخرى.
جلست فى مقعدى البالى وقد داعب النوم السارق جفونى بحدة حتى أنى لم أنتبه للخطوات الرتيبة على الاسفلت تقترب منى .... أيقظنى صوته البارد كبرد هذه الليلة
"ايه يا دفعة"
أسترعى إنتباهى الفتى الأسمر الصعيدى النحيل فى زيه العسكرى الملئ بالثقوب وذقنه الغير حليقة وعينيه الحمرواين كأنما مرت عليه ألف ليلة ساهراً,فركت عينيى بأرهاق مستغرباً وقد جلس بجانبى - لاأعرف من أين أتى بالكرسى الذى يجلس عليه-.... وقبل أن أتفوه بكلمة بدد حيرتى:-
أنا زميلك المفروض أن يتسلم مكانه معك منذ يومين.
نظرت إليه وأنا أتثائب ولم أعلق وإن شعرت بالأرتياح لمن يؤنس وحدتى فى هذا المكان المقفر سألته :-
تشرب شاى.. فأومأ فى راحة
أعطيته كوب شاى نصف دافئ من الترمس خاصتى
شمه بأنفه دون أن يرتشفه :-
-تحبونه خفيف أيها القاهريون ككل أشيائكم المترفة والناعمة, تجاهلت عبارته وأنا أرتشف قليلاً من الشاى وقد شعر هو بجفائى من طريقته الجافة حتى وهو يسألنى عن أسمى .
أجبته:-
-عاصم
ضحك ببرود والأخركان اسمه "هيثم" ثم أكمل فى سخرية إننا لانسمى مثل هذه الاسماء للفتيات , عندئذ تملكنى الغيظ من الفتى الحاقد على سكان القاهرة المغموسون فى زخام التلوث ,سألته بدورى ما أسمك
حجاج من الآقصر
ضحكت فى خفة أغاظته...
كل سكان الاقصر لا يخرجون عن حجاج او حجيج او ابو الحجاج
نظرلى بنصف عين:-
صحيح رفيق هيثم كان يدعى صلاح ابو الحجاج ,كان من الفقر بحث ان هبات هيثم القليلة كانت ثروة الدنيا بالنسبة له مقابل أن يحل محل الاخ هيثم الذى يعود لبيته وينام قرير العين فى فراشه الدافئ بينما صاحبنا سعيداً بوحدته وندرة السيارات فى الليل لكن البائس كان مخطئاً ..كان مخطئاً للغاية ...ثم صمت وعاد لتشمم الشاى الساخن وهو يتصاعد بخاره من بين يديه .. وحينما طال صمته, قلت دون أن اعلق على ثرثرته :-
-يبدو أنها ليلة طويلة باردة
لم يلتفت لى بل رنا ببصره إلى الطريق المواجه للمحطة حيث المقابر المظلمة الشائهة تحت نور القمر الخافت وثمة ريح تعبث بالتراب حولها فتثيره غباراً أهوج أثارت الرجفة فى أوصالى بينما الجالس بجانبى يأتى صوته عميقاً سحيقاً:-
فى ليلة مثل هذه كان صلاح وحيداً تماماً فى أخر ساعات الليل... يدندن بلحن شهير راج أيام التسعينات لمنير
"بندهك يا طير مهاجر يرجع الصبح المسافر"
وبينما هو فى حالة من الإرتخاء اذا بخطوات غير منتظمة قوية تجعله ينتبه بشدة
حينما جال ببصره لم يجد شيئاً يذكر فعاد للغناء مرة أخرى
"بندهك صانع وتاجر بندهك فلاح وبنا"
ولكن الخطوات عادت مرة اخرى اكثر ارتفاعاً ....فزاع بصر صاحبناً وأنتفض والتفت يميناً ويساراً وهو يحملق فى الطرقات الخالية حوله دون جدوى.. ثم رتبت يد باردة بخفة على ظهره على ظهره فانتفض بعنف و.....
عند هذه الجزء أرتعشت وتوترت . ... بينما حجاج يبتسم أبتسامة واسعة مقيتة اظهرت السنة الفضية فى اسنانه وهى تلمع بشدة.
تنهدت :-
كفى لا اريد المزيد ....لكنه أكمل متجاهلاً خوفى
كانت صاحبة اليد فتاة شابة فى اوائل العشرينات , نحيفة للغاية ذات شعر قصير ناعم ترتدى بدلة جلدية سوداء لامعة ,تكلمت بصوت واهن:-
سيارتى نفذ منها الوقود هل تسطيع مساعدتى؟؟؟
كان الفتى من الشهامة بأن يتبعها بكل همة وهى تخبره ان السيارة على الجانب الاخر
تبعها حتى السيارة الصغيرة البيضاء القابعة وسط الطريق بجانب المقابر وقد توقفت الفتاة بجانبها ثم عبرتها لتغوص فى قلب المقابر المظلم وصاحبنا يناديها:-
إلى أين؟ توقفى , وقد وقف محتاراً فيما يفعله.. فأتجه للسيارة عله ينير انوارها لترشده وما إن اقترب من السيارة حتى غاص قلبه بين ضلوعه فقد كانت هناك
سألته فى خوف
من التى كانت هناك
ضحك فى غموض
من تظن الفتاة بالطبع , وقد تمزق جسدها على نحو بشع نتيجة الحادث وقد امتدت يدها مرتجفة دامية و.....
زفرت وقد نهضت فى ضيق:-
-قصة سخيفة
همس فى غموض لم تكن هذه نهاية القصة
كفى لا اريد
أكمل بكل سماجة:-
طار صاحبنا كالمجنون عبر الطريق ولم ينتبه للناقلة الضخمة التى دهستة ومضت , تمزق المسكين لاشلاء هنا ... واشار لموضع امام المحطة... خيل لى انى ارى الاشلاء تنزف فى شدة والرياح تقذفها فى عنف فذهلت لوهلة ..إلا إن سيارة دخلت فى هذه اللحظة للتموين فقلت للرفيق اللزج حان وقت العمل وأنا أسير نحوها بكل همة.
كانت سيارة من النوع الرياضى وبها رجل فى اوائل الاربعينات بعد أن دفع مبلغ تموين الوقود .. سألنى عن مياه خضراء لمبرد السيارة لأن سفره طويل.
ناديت حجاج كى يأتينى بالمياه من الداخل ولكنه اختفى وتلاشى تاركاً خلفه كوب الشاى الساخن... حانت منى إلتفاتة جهة المقابر فلم اجد سوى الظلام يلفها وثمة سنة فضية تلمع بشدة وضحكة عابثة تدوى فى خفوت.
كان صاحب السيارة قد مل من الانتظار فأدار المحرك وأبتعد وصارت سيارته كنقطة صغيرة مضيئة على الطريق ثم ما لبثت أن زوت تاركة إياى والخوف والضحكة الخافتة الشامتة وذلك الصوت العابث الأتى من بعيد يدندن:-
طقطة فرن الخبيز
صلصة جرس المعيز
يرجع الصبح المسافر
ثمة خطوات تقترب وتقترب ويد باردة توضع على كتفى ...نظرت بارتياع إليها وقد وقف شعر راسى وهى ببدلتها السوداء الللامعة تهمس بصوت كالفحيح:-
نفذ الوقود من سيارتى وهى على جانب الطريق فهل تسطيع مساعدتى و؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق