الأربعاء، 13 أبريل 2011

قصص من ميدان التحرير 1 الامريكى


ميدان التحرير 1


خمسة عشر عاماً انقضت منذ غادرت شقتنا العتيقة التى تقبع فى جاردن سيتى

غطى التراب والعناكب كل شئ ,وكأن الشقة تحولت لقبر صامت يسكنه الهجر وركام السنين الغافية , ثمة صورة ضوئية ملقاة فى اهمال لفتى فى اوائل العشرينات يحيط به الرفاق,.... اتساءل فى ألم

اين هم.. فى غياهب السجون ...ام تحت وطأة الحياة ...ام صاروا هشيماً فى القبور ثم أغمم فى سخرية:-

هؤلاء من تتألم لهم يا عاصم لا تذكر حتى اسمائهم , امعنت النظر فى الصورة ونظرت الى التاريخ الباهت , قبل القبض علينا باسبوع, ثلاثة شبان فى كلية الهندسة نجتمع فى بيت أحدنا كل ليلة أستعدادا لأمتحانات نهاية العام ثم نصلى الفجر فى أحد المساجد الكبيرة....مازلت اذكر الفجر الأخير حين خرجنا منه الى غياهب سجون أمن الدولة بلا جريرة.... أمعن لنظر فى الصورة لعل شخصوها الصامته تبنئنى بشئ عن الآسبوع الذى قضيته وغاب من ذاكرتى, فقط أذكر أن لعائلتنا بعض النفوذ الذى أخرجنى من الجب المظلم ثم من مصر كلها لأذهب لعمى فى نيوجرسى ..حياة جديدة ..او موت جديد

أعوام انقضت ولم يعاودنى الحنين للوطن وحتى أننى لم أشيع أبى و امى لدى وفاتهما فى حادث , تشنجت عينى فى خفوت ثم عاودتنى ابتسامة ساخرة وغممت:-

مازلت شرقى فى أعماقك يا عاصم , انت الان امريكى حتى النخاع يا رجل ...وما عدت لحنين او ذكريات بل لبيع ما تبقى من ممتلكات... وها انت أيها البائس تعود فى مظاهرات عارمة تعبق رائحة الهواء برائحة البارود الخانقة.

تركت الصورة جانباً وأنا أجيل النظر فى المكان وأفتح الشرفة العنيدة ..شعرت أن صوت صريرها نحيب وعتاب
..كانت شجرة السرو العجوز قد تطاولت وألتفت حول حول سور الشرفة الحديدى المزين الملتف كأزهار اللوتس ...وقد كافحت بين الآغصان المحتلة ليتسرب شئ من شمس الظهيرة دون جدوى ..تنهدت فى تعب وقد أتنبهت لخطوات فى الردهة ودق قلبى فى عنف ثم هدأت وأنا أرى الوجه العجوز الطيب لعم صفوان ..مرقت الذكريات كسهم النار وقد عادت أسماء الرفاق حبور فى هواء الغرفة ترتسم فريد ..هاشم.. هانى ..أحتوانى الصدر الحنون وشيب السنون وبكاء مرير يختلط برائحة المطر وهتف بى الرجل الطيب فى عفوية

"سى عاصم" يا ابن الغالى ..حمد الله على السلامة

انقضت ساعة وقد عادت الشقة لرونقها بعد أن نظفتها سيدة أبنة صفوان وأعدت لى طعاماً سريعا بسيطا شهى
قلت للعجوزوأنا أرتشف الشاى فى نهم هناك مشترى للشقة سيأتى نحو السابعة ..إنها الرابعة الأن سأتجول الآن فى ميدان التحرير وأعود فى السادسة ..غمم فى خفوت المظاهرات يا بنى ..غمزت فى كبرياء

أنا أمريكى لا تقلق ثم دسست فى يده بعض المال وأنا الوح له فى مرح وفاتنى محياه وقد اضناه الألم

إن التقاط بعض الصور من شأنه ان يسعد جيسكا رفيقتى..تذكرتها بوجها العابث الجميل وملابسها الفوضوية وزفرت بعمق وأنا اغوص فى الميدان الخاوى يوم الخميس... ثمة صراع دامى دار هنا .. توقف عند ركن بيع الكتب والجرائد عند ناصية طلعت حرب وقد جذبنى بشدة الفتاة السمراء النحيلة تمد غطاء بلاستيكى حول الكتب إتقاءا لرزاز لمطر ..ومضت فى ذهنى صورة قديمة لطفلة صغيرة تساعد العجوز الذى أرتكن على الدكة الخشبية فى وهن وقد إزداد عجزاً فوق عجز والصبية تضع دثاراً حول كتفه وتعطيه كوباً من الشاى الدافئ ثم تنظر إلى فى تساؤل وقد نمت ملاحها فى شك فأخذت جريدة أجنبية من الرف ونقدتها الثمن.


مضيت فى طريقى ..أوقفنى أحد رجال الأمن فى غطرسة ..ابرزت جواز سفرى فتهدلت كتفاه فى إستكانة وتلاشى من أمامى ...أنتشيت ..فى المساء جاءنى صوت جيسكا ناعماً فاغمضت عينى فى نعاس وقد أحتلت سمراء الميدان تفكيرى.

أستيقظت فى العاشرة صباحاً ..نهار يوم الجمعة الساكن كجوالى الراقد جثة هامدة وقد انقطعت الأتصالات ..ألقيته فى حنق ساخطاً:-

دول عالم رابع

فى الثانية ظهراً كان الصوت يهز الجدران تردد فى قوة

الشعب ..يريد..إسقاط ...النظام.... الشعب ..يريد..إسقاط ...النظام ...الشعب ..يريد..إسقاط ...النظام

لم يبق لى اتصال بالعالم سوى تلفاز عم صفوان يبث من قنوات أخرى ملايين من الناس الهادرة ..نسيت جواز سفرى ..نسيت جيسكا فى أتون الحماسة اللاهب ..يعصف بى الإنبهار الأحداث المتوالية بسرعة ..عصابات الرعب الأمنية تجتاح مصر كلها ليلاً والكل يقف وقفة رجل واحد يدافع عن العرض والكرامة –بينما أنا الأمريكى أقبع فى شقتى بعد أن أتعبتنى اللجان الشعبية .

يوم الاثنين عثرت على بطاقتى القديمة وصورة كارنيه الكلية فقررت الخروج للميدان ..عندى فضول للبحث عن العجوز وابنته السمراء

فتشونى بدقة ابرزت لهم البطاقة والكارنيه القديم ,كان هناك سور يفصل النساء عن الرجال وقدلفت انتباهى سيدة تمسك بيدها طفل فى الثانية عشرمن عمره فى صفوف النساء اخذه احد الرجال فاحتدت غاضبة:-
انه صغير
فقال لها الرجل مازحا:-
لا يا سيدتى
-ابنك دخل المظاهرة "بقى راجل خلاص"

كان الهتاف هذه المرة

الشعب..يريد..اسقاط النظام..الشعب يريد محاكمة النظام...

ووسط هذا الخضم الهادر بحثت عن فتاة الجرائد وابيها ..وجدتهاهناك وقد توسطت كتبها يافطة كتب فوقها بخط احمر
" ارحل
" ....وثمة خيمة بلاستيكية صغيرة بجانب الكرسى الخشبى الذى كان يجلس عليه العجوز...كانت توزع الشاى بهمة ولم تفوتنى التماعة الدموع فى عينيها على الاب الراحل

ناديت عليها يا...

قالت برقة وقد اكتسى محياها الاسمر ببسمة حزينة:-
نعم
اقتربت منها ودسست فى يدها ورقة من فئة المئة دولار

اعادتها لى وهى تقول فى أستخفاف

"ربنا يشفيك"

ثم دارت مرة اخرى بأكواب الشاى الساخن .وقد ابتعلت غصة فى حلقى وأعترانى الخجل وهممت بالرحيل من الميدان الصاخبالا انها سرعان ما مدت يدها بكوب من الشاى
يا استاذ.. الشاى
وقبل ان اتفوه دست فى يدى قطعة من حلوى المشبك

عدت يوم الثلاثاء للميدان وقد رفعت لوحة صغيرة مكتوب عليها

مصرى وأفتخر...مازلت الاتصالات منقطعة لكنى لا اهتموقد قابلت هانى رفيق الفجر الاخير فى الميدان ..أحتضنى فى مودة وهو يقود يدى عبر المظاهرة ..وقد بدأت التنازلات والوعود وثمة أمل فى الطريق

عدت للمنزل متأخرا يوم الثلاثاء ونمت حتى ظهيرة الاربعاء ..مررت فى طريقى على عم صفوان للتحية وقد نقل التلفاز مجزرة تحدث فى الميدان بالخيول والجمال والآسلحة البيضاء

دخلت بصعوبة للميدان بجرح دامى فى الجبهة ابحث عن هانى وفتاتى السمراء وجدتها ساكنة فى نومتها الابدية وثمة جرحاً دامى من خلف رأسها وقد تكورت الجرائد فى حضنها .. مازلت البقعة التى تحمل دمائها تغطى الأسفلت فى ميدان الشهداء ميدان التحرير سابقاً وقد أخذت موضعها وموضع ابيها اهتف فى قوة

الشعب يريد محاكمة النظام
 
توقيع : روان عبد الكريم

الاثنين، 11 أبريل 2011

زمــــــــــــــرد

زمرد



ذات شتاء بارد قبعنا فى المنزل الريفى خاصتنا فى احدى قرى الفيوم, كنا ننتظر على اتون الجمر ولادة المهر الصغير بعد طول انتظار وقد جلست انا وسناء شقيقتى فى الركن فى هدوء وترقب , وقد تصبب العرق غزيراً على جبين أبى الطبيب البيطرى ومساعده يشد ازره ..... بينما وقفت الفرس فجأة ليتدلى منها بعض الماء ثم تستقلى مرة أخرى فى سكون تارة وانتفاضات متلاحقة تارة أخرى تثير العشب الجاف اسفلها ونحن ننظر فى أثارة وقد غاب الوسن عن جفوننا ثم تدلت منها أولى بشائر الحياة وظهر المهر الصغير وقد أحتواه شبه كيس ابيض اللون حينئذ تعالت صيحات الفرح من أبى ومساعده وربت على على جيد الفرس فى حنان.... لم يفوقه سوى حنان الفرس على مهرها الصغير وهى تلعقه بأهتمام ثم تستلقى فى خمول وهى تنظر نظرة أخيرة على وليدها وقد طارت روحها شعاعاً وأنتفض الجسد الأنتفاضة الأخيرة.


أتكئ أبى على قدميه وهو يمسك برأس الآم ويصرخ فى مساعدة أن يغرس حقنة تنشيطية بها لكن هيهات فقد استجمعت المسكينة أخر أنفاس الحياة لتهب للصغير حياة أخرى .
كانت المرة الأولى التى يبكى فيها أبى أمامنا......... وقد أرتعنا أيما أرتياع وجرينا الى أمنا وقد وقفت بملابس النوم على مدخل باب الاصطبل فهى كانت نائمة وقد أيقظنا أبى فى هدوء لكى نحضر هذه الولادة وبدلا من زجرنا شعرت بالخطب وربتت علينا بحنان وهى تمسك بذراع أبى وتقول أنهض عزيزى أن للك أن ترتاح قليلاً.


كانت عيناه حمروان من البكاء المر وقد ألمه أن يترك الفرس هكذا ملقاة فازاح يداها فى رفق وهو ينظر فى أتجاهنا ويقول أذهبى بالطفلتين الأن وماهى إلا فينة وأنا وسناء نرتمى فى احضا ن والدنا ونبكى لبكائه وقد أرتعشت أمى للموقف بينما أنهمك المساعد فى المهر الصغير الذى نسينا أمره تماماً.



كان الصبح بدأ يتنفس وبدأت السماء الزرقاء وقد تناثرت على جبينها لوحات من السحب البيضاء الداكنة تمضى بلهو من مكان لاخر تطاردها أشعة الشمس فى قسوة وتششت شملها ولم تستطع عيوننا الناعسة أن تقف أمام جبروت الشمس ومضينا مع أمنا لنغفو فى تعب ولم أستيقظ سوى فى الظهيرة ورائحة الطعام تداعب انفى فنظرت تجاه سرير سناء ولم أجدها ..حينئذ تذكرت قصة المهر وقصة الآمس الحزينة .. يومها كنت فى نحو العاشرة وسناء فى الثانية عشر وقد وقفت تساعد أمى فى وضع الأطباق وهى تنادى سما أيتها الكسولة أستيقظى ....فغسلت يدى ووجهى سريعاً وأرتديت سروالى البنى المفضل وكنزة خضراء أشتراها أبى لى العام الماضى من القاهرة بثمن باهظ رغم نقوده القليلة التى ضاع اغلبها على البيت الريفى وتربية الجياد وقد باع هذا العام أخر جوادين يملكهما لسداد الديون المتراكمة ولم يبقى سوى" سلوى" الفرس الآثيرة لديه.. ورفض بيعها بكل الطرق وقد غضب أيما غضب حينما علم بحملها فهى لم تكن تحتمل الولادة وقد قضت نحبها وها هو يجلس باكتئاب على المائدة يلهو بحبيات الأرز فى طبقه وأمى لآ تعلق بل أكلت بكل هدوء وهى تشير لى:-
أجلسى يا سما واعطتنى طبقاً مليئا بالطعام وقد أزحته جانباً وأنا أنظر لأمى فى وجل لأنى أعلم أنها أتفقت الصيف الماضى مع مساعد أبى على تلقيح الفرس وحذرتنى بقطع رقبتى أن تفوهت بكلمة. ...وها هى تجلس بكل هدوء وتأكل ثم تقول دون أن تنظر لأحد
"الطعام جيد" , تمتم ابى وهو ينهض:-
لا شهية لى وسار باتجاه الباب وانا اقفز فى سرعة لألحق به وقد أخذت بعض من أفخاذ الدجاج ورغيفى خبز وسط صيحة أمى وسخطها وهى تردف أنت أبنه أبيك أيتها الفتاة الصبى .



وهى على حق فأنا أشبه كثيراً بجسده النحيل وشعره البنى وطبعه الحنون بيد أنى احمل الكثير من النمش على وجهى , كان أبى بطلى الآثير وأنا ارقبه يحنو على المهر الصغير وقد نمت ملامحه عن فرحه ممزوجة بالألم ثم انقلب ملامحه لآهتمام حقيقى وهو يقول شئ عجيب حقا..... وقد جلست بجانبه على العشب والفرس الصغير ينهض بقوائمه فى ضعف ويتقبل من ابى زجاجة حليب بكل جوع وقد أرتعش جسده فى حبور وبرقت عيناه التى اثارت أبى بلونهما الأخضر الزمردى وهويمسح جسد الفرس وقد أنتعش كلاهما من جديد وابى يقول هذه معجزة يا سما معجزة أن يكون لفرس عينان خضروان.......... وهكذا اطلقنا عليه أسم زمرد ونحن نلتهم افخاذ الدجاج بمرح.


كبر زمرد وخلال شهروصار يملاء البيت الريفى صخباً... ومع نموه زادت المشاكل بين أبى وأمى التى رأت فى بيع زمرد حل لمشاكلنا ورفض أبى فى أصرار ..وأن وظيفته تدر عائد معقول ولكن أسرافها وسفرها الكثير هو ما يثقل كاهله وكان كلامه هو القشة التى قصمت ظهر البعير فلم تمضى ساعة الا وقد وشحنت كل شئ فى سيارة وغادرت أبى ونحن برفقتها دون حتى أن تودعه , وحتى دون أن تسمح لنا بوداعه وقد بكت سناء كثيراً وهى ترجوها أن تعيدنا للبيت وأمى تردف أنكما الأثنتان ابنتا أبيكما......كلما تذكرت هذه الفترة المريرة بين تعنت أمى واسرتها وتوسلات ابى ابكى كثيرا فقد غلقت علينا الحجرات وأنهمرت دموعنا ونحن نرقبه من خلف النافذة وهو يمضى كسيراً فى كل مرة يأتى فيها, وقد حصلت أمى على الطلاق وتزوجت رجلاً ثرياً يناسب طموحها ولم يياس ابى ابداً حتى استعدانا وقد عدنا لبيتنا الريفى ولشدة دهشتنا وجدنا الرخاء يعم فيه ولم نجد زمرد فعلمنا أن أبى قد باعه من أجلنا.



ولم تكن هذه نهاية قصتنا فذات مساء ونحن نجلس فى حديقة المنزل الريفى فاذا بسيارة شحن كبيرة تتقدمها سيارة فارهة وقد هبط منها رجل وقور تقدم أبى بتجاهه... ثم هرع لسيارة الشحن وهو يصعدها والفرس يداعبه فى جنون بعد أن رفض الطعام وهزل كثيراً ولم يأكل إلا من يدى أبى وسط فرحتنا أنا وسناء والرجل الوقور يرقبنا فى هدوء وبعد ساعات جلس مع أبى الذى أخبره أن يسطيع أن يرد جزء من ثمن الفرس وسيقسط الباقى ....إلا أن الرجل قاطعه وقال أنا لن أبيعه ولكن سأبيقه معك وغير ذلك سنبدأ فى أنشاء مزرعة كبيرة هنا للخيول وأردف وهو يقول هذا أذا كنت تقبلنى شريكاً .......كانت هذه الليلة أجمل ليالينا وقد عاد زمرد لنا مرة أخرى وماهى الا شهور قليلة وتدب الحياة فى المزرعة التى ضمت أراضى إليها أعطت للفرس الآصيل مكانا اوفر للهو والركض وأعطت لأبى الحياة مرة أخرى .........وفى ليلة شتوية أخرى كنا نقف بجوار أبى نشد ازره فى توليد الفرس الجديدة وليفة زمرد, وكانت فرس شابة قوية ولم تمض لحظات إلا وكانت تمسح جسد صغيرها بكل همة , بينما وقفت أمنا على الباب وقد أتت دون ميعاد تنظر إلينا بعيون خاوية وقد خلا أصبعها من محبس الزواج الجديد وقد خطت بأتجاهنا ولكن أبى لم يسطع أيجاد لها مكان بجانبنا وأن حلت علينا مرات ضيفة عزيزة, تأتى لتنظر مبهورة إلى الفرس الذهبى بعيونه الزمردية الخضراء وقد تطاير شعره يصافح عنان السماء, بنجومها الكبيرة اللامعة وتتساءل وهى تسمح دموع رقراقة هل يصلح الزمن الآخطاء