ميدان التحرير 1
خمسة عشر عاماً انقضت منذ غادرت شقتنا العتيقة التى تقبع فى جاردن سيتى
غطى التراب والعناكب كل شئ ,وكأن الشقة تحولت لقبر صامت يسكنه الهجر وركام السنين الغافية , ثمة صورة ضوئية ملقاة فى اهمال لفتى فى اوائل العشرينات يحيط به الرفاق,.... اتساءل فى ألم
اين هم.. فى غياهب السجون ...ام تحت وطأة الحياة ...ام صاروا هشيماً فى القبور ثم أغمم فى سخرية:-
هؤلاء من تتألم لهم يا عاصم لا تذكر حتى اسمائهم , امعنت النظر فى الصورة ونظرت الى التاريخ الباهت , قبل القبض علينا باسبوع, ثلاثة شبان فى كلية الهندسة نجتمع فى بيت أحدنا كل ليلة أستعدادا لأمتحانات نهاية العام ثم نصلى الفجر فى أحد المساجد الكبيرة....مازلت اذكر الفجر الأخير حين خرجنا منه الى غياهب سجون أمن الدولة بلا جريرة.... أمعن لنظر فى الصورة لعل شخصوها الصامته تبنئنى بشئ عن الآسبوع الذى قضيته وغاب من ذاكرتى, فقط أذكر أن لعائلتنا بعض النفوذ الذى أخرجنى من الجب المظلم ثم من مصر كلها لأذهب لعمى فى نيوجرسى ..حياة جديدة ..او موت جديد
أعوام انقضت ولم يعاودنى الحنين للوطن وحتى أننى لم أشيع أبى و امى لدى وفاتهما فى حادث , تشنجت عينى فى خفوت ثم عاودتنى ابتسامة ساخرة وغممت:-
مازلت شرقى فى أعماقك يا عاصم , انت الان امريكى حتى النخاع يا رجل ...وما عدت لحنين او ذكريات بل لبيع ما تبقى من ممتلكات... وها انت أيها البائس تعود فى مظاهرات عارمة تعبق رائحة الهواء برائحة البارود الخانقة.
تركت الصورة جانباً وأنا أجيل النظر فى المكان وأفتح الشرفة العنيدة ..شعرت أن صوت صريرها نحيب وعتاب
..كانت شجرة السرو العجوز قد تطاولت وألتفت حول حول سور الشرفة الحديدى المزين الملتف كأزهار اللوتس ...وقد كافحت بين الآغصان المحتلة ليتسرب شئ من شمس الظهيرة دون جدوى ..تنهدت فى تعب وقد أتنبهت لخطوات فى الردهة ودق قلبى فى عنف ثم هدأت وأنا أرى الوجه العجوز الطيب لعم صفوان ..مرقت الذكريات كسهم النار وقد عادت أسماء الرفاق حبور فى هواء الغرفة ترتسم فريد ..هاشم.. هانى ..أحتوانى الصدر الحنون وشيب السنون وبكاء مرير يختلط برائحة المطر وهتف بى الرجل الطيب فى عفوية
"سى عاصم" يا ابن الغالى ..حمد الله على السلامة
انقضت ساعة وقد عادت الشقة لرونقها بعد أن نظفتها سيدة أبنة صفوان وأعدت لى طعاماً سريعا بسيطا شهى
قلت للعجوزوأنا أرتشف الشاى فى نهم هناك مشترى للشقة سيأتى نحو السابعة ..إنها الرابعة الأن سأتجول الآن فى ميدان التحرير وأعود فى السادسة ..غمم فى خفوت المظاهرات يا بنى ..غمزت فى كبرياء
أنا أمريكى لا تقلق ثم دسست فى يده بعض المال وأنا الوح له فى مرح وفاتنى محياه وقد اضناه الألم
إن التقاط بعض الصور من شأنه ان يسعد جيسكا رفيقتى..تذكرتها بوجها العابث الجميل وملابسها الفوضوية وزفرت بعمق وأنا اغوص فى الميدان الخاوى يوم الخميس... ثمة صراع دامى دار هنا .. توقف عند ركن بيع الكتب والجرائد عند ناصية طلعت حرب وقد جذبنى بشدة الفتاة السمراء النحيلة تمد غطاء بلاستيكى حول الكتب إتقاءا لرزاز لمطر ..ومضت فى ذهنى صورة قديمة لطفلة صغيرة تساعد العجوز الذى أرتكن على الدكة الخشبية فى وهن وقد إزداد عجزاً فوق عجز والصبية تضع دثاراً حول كتفه وتعطيه كوباً من الشاى الدافئ ثم تنظر إلى فى تساؤل وقد نمت ملاحها فى شك فأخذت جريدة أجنبية من الرف ونقدتها الثمن.
مضيت فى طريقى ..أوقفنى أحد رجال الأمن فى غطرسة ..ابرزت جواز سفرى فتهدلت كتفاه فى إستكانة وتلاشى من أمامى ...أنتشيت ..فى المساء جاءنى صوت جيسكا ناعماً فاغمضت عينى فى نعاس وقد أحتلت سمراء الميدان تفكيرى.
أستيقظت فى العاشرة صباحاً ..نهار يوم الجمعة الساكن كجوالى الراقد جثة هامدة وقد انقطعت الأتصالات ..ألقيته فى حنق ساخطاً:-
دول عالم رابع
فى الثانية ظهراً كان الصوت يهز الجدران تردد فى قوة
الشعب ..يريد..إسقاط ...النظام.... الشعب ..يريد..إسقاط ...النظام ...الشعب ..يريد..إسقاط ...النظام
لم يبق لى اتصال بالعالم سوى تلفاز عم صفوان يبث من قنوات أخرى ملايين من الناس الهادرة ..نسيت جواز سفرى ..نسيت جيسكا فى أتون الحماسة اللاهب ..يعصف بى الإنبهار الأحداث المتوالية بسرعة ..عصابات الرعب الأمنية تجتاح مصر كلها ليلاً والكل يقف وقفة رجل واحد يدافع عن العرض والكرامة –بينما أنا الأمريكى أقبع فى شقتى بعد أن أتعبتنى اللجان الشعبية .
يوم الاثنين عثرت على بطاقتى القديمة وصورة كارنيه الكلية فقررت الخروج للميدان ..عندى فضول للبحث عن العجوز وابنته السمراء
فتشونى بدقة ابرزت لهم البطاقة والكارنيه القديم ,كان هناك سور يفصل النساء عن الرجال وقدلفت انتباهى سيدة تمسك بيدها طفل فى الثانية عشرمن عمره فى صفوف النساء اخذه احد الرجال فاحتدت غاضبة:-
انه صغير
فقال لها الرجل مازحا:-
لا يا سيدتى-ابنك دخل المظاهرة "بقى راجل خلاص"
كان الهتاف هذه المرة
الشعب..يريد..اسقاط النظام..الشعب يريد محاكمة النظام...
ووسط هذا الخضم الهادر بحثت عن فتاة الجرائد وابيها ..وجدتهاهناك وقد توسطت كتبها يافطة كتب فوقها بخط احمر
" ارحل" ....وثمة خيمة بلاستيكية صغيرة بجانب الكرسى الخشبى الذى كان يجلس عليه العجوز...كانت توزع الشاى بهمة ولم تفوتنى التماعة الدموع فى عينيها على الاب الراحل
ناديت عليها يا...
قالت برقة وقد اكتسى محياها الاسمر ببسمة حزينة:-
نعم
اقتربت منها ودسست فى يدها ورقة من فئة المئة دولار
اعادتها لى وهى تقول فى أستخفاف
"ربنا يشفيك"
ثم دارت مرة اخرى بأكواب الشاى الساخن .وقد ابتعلت غصة فى حلقى وأعترانى الخجل وهممت بالرحيل من الميدان الصاخبالا انها سرعان ما مدت يدها بكوب من الشاى
يا استاذ.. الشاى
وقبل ان اتفوه دست فى يدى قطعة من حلوى المشبك
عدت يوم الثلاثاء للميدان وقد رفعت لوحة صغيرة مكتوب عليها
مصرى وأفتخر...مازلت الاتصالات منقطعة لكنى لا اهتموقد قابلت هانى رفيق الفجر الاخير فى الميدان ..أحتضنى فى مودة وهو يقود يدى عبر المظاهرة ..وقد بدأت التنازلات والوعود وثمة أمل فى الطريق
عدت للمنزل متأخرا يوم الثلاثاء ونمت حتى ظهيرة الاربعاء ..مررت فى طريقى على عم صفوان للتحية وقد نقل التلفاز مجزرة تحدث فى الميدان بالخيول والجمال والآسلحة البيضاء
دخلت بصعوبة للميدان بجرح دامى فى الجبهة ابحث عن هانى وفتاتى السمراء وجدتها ساكنة فى نومتها الابدية وثمة جرحاً دامى من خلف رأسها وقد تكورت الجرائد فى حضنها .. مازلت البقعة التى تحمل دمائها تغطى الأسفلت فى ميدان الشهداء ميدان التحرير سابقاً وقد أخذت موضعها وموضع ابيها اهتف فى قوة
الشعب يريد محاكمة النظام
خمسة عشر عاماً انقضت منذ غادرت شقتنا العتيقة التى تقبع فى جاردن سيتى
غطى التراب والعناكب كل شئ ,وكأن الشقة تحولت لقبر صامت يسكنه الهجر وركام السنين الغافية , ثمة صورة ضوئية ملقاة فى اهمال لفتى فى اوائل العشرينات يحيط به الرفاق,.... اتساءل فى ألم
اين هم.. فى غياهب السجون ...ام تحت وطأة الحياة ...ام صاروا هشيماً فى القبور ثم أغمم فى سخرية:-
هؤلاء من تتألم لهم يا عاصم لا تذكر حتى اسمائهم , امعنت النظر فى الصورة ونظرت الى التاريخ الباهت , قبل القبض علينا باسبوع, ثلاثة شبان فى كلية الهندسة نجتمع فى بيت أحدنا كل ليلة أستعدادا لأمتحانات نهاية العام ثم نصلى الفجر فى أحد المساجد الكبيرة....مازلت اذكر الفجر الأخير حين خرجنا منه الى غياهب سجون أمن الدولة بلا جريرة.... أمعن لنظر فى الصورة لعل شخصوها الصامته تبنئنى بشئ عن الآسبوع الذى قضيته وغاب من ذاكرتى, فقط أذكر أن لعائلتنا بعض النفوذ الذى أخرجنى من الجب المظلم ثم من مصر كلها لأذهب لعمى فى نيوجرسى ..حياة جديدة ..او موت جديد
أعوام انقضت ولم يعاودنى الحنين للوطن وحتى أننى لم أشيع أبى و امى لدى وفاتهما فى حادث , تشنجت عينى فى خفوت ثم عاودتنى ابتسامة ساخرة وغممت:-
مازلت شرقى فى أعماقك يا عاصم , انت الان امريكى حتى النخاع يا رجل ...وما عدت لحنين او ذكريات بل لبيع ما تبقى من ممتلكات... وها انت أيها البائس تعود فى مظاهرات عارمة تعبق رائحة الهواء برائحة البارود الخانقة.
تركت الصورة جانباً وأنا أجيل النظر فى المكان وأفتح الشرفة العنيدة ..شعرت أن صوت صريرها نحيب وعتاب
..كانت شجرة السرو العجوز قد تطاولت وألتفت حول حول سور الشرفة الحديدى المزين الملتف كأزهار اللوتس ...وقد كافحت بين الآغصان المحتلة ليتسرب شئ من شمس الظهيرة دون جدوى ..تنهدت فى تعب وقد أتنبهت لخطوات فى الردهة ودق قلبى فى عنف ثم هدأت وأنا أرى الوجه العجوز الطيب لعم صفوان ..مرقت الذكريات كسهم النار وقد عادت أسماء الرفاق حبور فى هواء الغرفة ترتسم فريد ..هاشم.. هانى ..أحتوانى الصدر الحنون وشيب السنون وبكاء مرير يختلط برائحة المطر وهتف بى الرجل الطيب فى عفوية
"سى عاصم" يا ابن الغالى ..حمد الله على السلامة
انقضت ساعة وقد عادت الشقة لرونقها بعد أن نظفتها سيدة أبنة صفوان وأعدت لى طعاماً سريعا بسيطا شهى
قلت للعجوزوأنا أرتشف الشاى فى نهم هناك مشترى للشقة سيأتى نحو السابعة ..إنها الرابعة الأن سأتجول الآن فى ميدان التحرير وأعود فى السادسة ..غمم فى خفوت المظاهرات يا بنى ..غمزت فى كبرياء
أنا أمريكى لا تقلق ثم دسست فى يده بعض المال وأنا الوح له فى مرح وفاتنى محياه وقد اضناه الألم
إن التقاط بعض الصور من شأنه ان يسعد جيسكا رفيقتى..تذكرتها بوجها العابث الجميل وملابسها الفوضوية وزفرت بعمق وأنا اغوص فى الميدان الخاوى يوم الخميس... ثمة صراع دامى دار هنا .. توقف عند ركن بيع الكتب والجرائد عند ناصية طلعت حرب وقد جذبنى بشدة الفتاة السمراء النحيلة تمد غطاء بلاستيكى حول الكتب إتقاءا لرزاز لمطر ..ومضت فى ذهنى صورة قديمة لطفلة صغيرة تساعد العجوز الذى أرتكن على الدكة الخشبية فى وهن وقد إزداد عجزاً فوق عجز والصبية تضع دثاراً حول كتفه وتعطيه كوباً من الشاى الدافئ ثم تنظر إلى فى تساؤل وقد نمت ملاحها فى شك فأخذت جريدة أجنبية من الرف ونقدتها الثمن.
مضيت فى طريقى ..أوقفنى أحد رجال الأمن فى غطرسة ..ابرزت جواز سفرى فتهدلت كتفاه فى إستكانة وتلاشى من أمامى ...أنتشيت ..فى المساء جاءنى صوت جيسكا ناعماً فاغمضت عينى فى نعاس وقد أحتلت سمراء الميدان تفكيرى.
أستيقظت فى العاشرة صباحاً ..نهار يوم الجمعة الساكن كجوالى الراقد جثة هامدة وقد انقطعت الأتصالات ..ألقيته فى حنق ساخطاً:-
دول عالم رابع
فى الثانية ظهراً كان الصوت يهز الجدران تردد فى قوة
الشعب ..يريد..إسقاط ...النظام.... الشعب ..يريد..إسقاط ...النظام ...الشعب ..يريد..إسقاط ...النظام
لم يبق لى اتصال بالعالم سوى تلفاز عم صفوان يبث من قنوات أخرى ملايين من الناس الهادرة ..نسيت جواز سفرى ..نسيت جيسكا فى أتون الحماسة اللاهب ..يعصف بى الإنبهار الأحداث المتوالية بسرعة ..عصابات الرعب الأمنية تجتاح مصر كلها ليلاً والكل يقف وقفة رجل واحد يدافع عن العرض والكرامة –بينما أنا الأمريكى أقبع فى شقتى بعد أن أتعبتنى اللجان الشعبية .
يوم الاثنين عثرت على بطاقتى القديمة وصورة كارنيه الكلية فقررت الخروج للميدان ..عندى فضول للبحث عن العجوز وابنته السمراء
فتشونى بدقة ابرزت لهم البطاقة والكارنيه القديم ,كان هناك سور يفصل النساء عن الرجال وقدلفت انتباهى سيدة تمسك بيدها طفل فى الثانية عشرمن عمره فى صفوف النساء اخذه احد الرجال فاحتدت غاضبة:-
انه صغير
فقال لها الرجل مازحا:-
لا يا سيدتى-ابنك دخل المظاهرة "بقى راجل خلاص"
كان الهتاف هذه المرة
الشعب..يريد..اسقاط النظام..الشعب يريد محاكمة النظام...
ووسط هذا الخضم الهادر بحثت عن فتاة الجرائد وابيها ..وجدتهاهناك وقد توسطت كتبها يافطة كتب فوقها بخط احمر
" ارحل" ....وثمة خيمة بلاستيكية صغيرة بجانب الكرسى الخشبى الذى كان يجلس عليه العجوز...كانت توزع الشاى بهمة ولم تفوتنى التماعة الدموع فى عينيها على الاب الراحل
ناديت عليها يا...
قالت برقة وقد اكتسى محياها الاسمر ببسمة حزينة:-
نعم
اقتربت منها ودسست فى يدها ورقة من فئة المئة دولار
اعادتها لى وهى تقول فى أستخفاف
"ربنا يشفيك"
ثم دارت مرة اخرى بأكواب الشاى الساخن .وقد ابتعلت غصة فى حلقى وأعترانى الخجل وهممت بالرحيل من الميدان الصاخبالا انها سرعان ما مدت يدها بكوب من الشاى
يا استاذ.. الشاى
وقبل ان اتفوه دست فى يدى قطعة من حلوى المشبك
عدت يوم الثلاثاء للميدان وقد رفعت لوحة صغيرة مكتوب عليها
مصرى وأفتخر...مازلت الاتصالات منقطعة لكنى لا اهتموقد قابلت هانى رفيق الفجر الاخير فى الميدان ..أحتضنى فى مودة وهو يقود يدى عبر المظاهرة ..وقد بدأت التنازلات والوعود وثمة أمل فى الطريق
عدت للمنزل متأخرا يوم الثلاثاء ونمت حتى ظهيرة الاربعاء ..مررت فى طريقى على عم صفوان للتحية وقد نقل التلفاز مجزرة تحدث فى الميدان بالخيول والجمال والآسلحة البيضاء
دخلت بصعوبة للميدان بجرح دامى فى الجبهة ابحث عن هانى وفتاتى السمراء وجدتها ساكنة فى نومتها الابدية وثمة جرحاً دامى من خلف رأسها وقد تكورت الجرائد فى حضنها .. مازلت البقعة التى تحمل دمائها تغطى الأسفلت فى ميدان الشهداء ميدان التحرير سابقاً وقد أخذت موضعها وموضع ابيها اهتف فى قوة
الشعب يريد محاكمة النظام
توقيع : روان عبد الكريم |
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق